الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرآن العظيم ***
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} هذا أمر من الله عز وجل للرجال إذا طلق أحدهم المرأة طلاقا له عليها فيه رجعة، أن يحسن في أمرها إذا انقضت عدتها، ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها، فإما أن يمسكها، أي: يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف، وهو أن يشهد على رجعتها، وينوي عشرتها بالمعروف، أو يسرحها، أي: يتركها حتى تنقضي عدتها، ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن، من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح، قال الله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} قال ابن عباس، ومجاهد، ومسروق، والحسن، وقتادة، والضحاك، والربيع، ومقاتل بن حيان وغير واحد: كان الرجل يطلق المرأة، فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضرارًا، لئلا تذهب إلى غيره، ثم يطلقها فتعتد، فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة، فنهاهم الله عن ذلك، وتوعدهم عليه فقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} أي: بمخالفته أمر الله تعالى. وقوله: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} قال ابن جرير: عند هذه الآية: أخبرنا أبو كُرَيْب، أخبرنا إسحاق بن منصور، عن عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن أبي العلاء الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي موسى: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب على الأشعريين، فأتاه أبو موسى فقال: يا رسول الله، أغضبت على الأشعريين؟! فقال: يقول أحدكم: قد طلقت، قد راجعت، ليس هذا طلاق المسلمين، طلقوا المرأة في قُبُل عدتها". ثم رواه من وجه آخر عن أبي خالد الدالاني، وهو يزيد بن عبد الرحمن، وفيه كلام. وقال مسروق: هو الذي يطلق في غير كنهه، ويضار امرأته بطلاقها وارتجاعها، لتطول عليها العدة. وقال الحسن، وقتادة، وعطاء الخراساني، والربيع، ومقاتل بن حيان: هو الرجل يطلق ويقول: كنت لاعبًا أو يعتق أو ينكح ويقول: كنت لاعبًا. فأنزل الله: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} فألزم الله بذلك. وقال ابن مردويه: حدثنا إبراهيم بن محمد، حدثنا أبو أحمد الصيرفي، حدثني جعفر بن محمد السمسار، عن إسماعيل بن يحيى، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: طلق رجل امرأته وهو يلعب، لا يريد الطلاق؛ فأنزل الله: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} فألزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الطلاق. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا عصام بن زوَّاد، حدثنا آدم، حدثنا المبارك بن فضالة، عن الحسن، هو البصري، قال: كان الرجل يطلق ويقول: كنت لاعبًا أو يعتق ويقول: كنت لاعبًا وينكح ويقول: كنت لاعبًا فأنزل الله: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من طلق أو أعتق أو نكح أو أنكح، جادًا أو لاعبًا، فقد جاز عليه". وكذا رواه ابن جرير من طريق الزهري، عن سليمان بن أرقم، عن الحسن، مثله. وهذا مرسل. وقد رواه ابن مردويه من طريق عمرو بن عبيد، عن الحسن، عن أبي الدرداء، موقوفًا عليه. وقال أيضًا: حدثنا أحمد بن الحسن بن أيوب، حدثنا يعقوب بن أبي يعقوب، حدثنا يحيى بن عبد الحميد، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سلمة، عن الحسن، عن عبادة بن الصامت، في قول الله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} قال: كان الرجل على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يقول للرجل زوجتك ابنتي ثم يقول: كنت لاعبًا. ويقول: قد أعتقت، ويقول: كنت لاعبًا فأنزل الله: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من قالهن لاعبًا أو غير لاعب، فهن جائزات عليه: الطلاق، والعتاق، والنكاح". والمشهور في هذا الحديث الذي رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة من طريق عبد الرحمن بن حبيب بن أردك، عن عطاء، عن ابن ماهك، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة". وقال الترمذي: حسن غريب. وقوله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي: في إرساله الرسول بالهدى والبينات إليكم {وَمَا أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} أي: السنة {يَعِظُكُمْ بِهِ} أي: يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على ارتكاب المحارم {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي: فيما تأتون وفيما تذرون {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي: فلا يخفى عليه شيء من أموركم السرية والجهرية، وسيجازيكم على ذلك.
{وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} قال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين، فتنقضي عدتها، ثم يبدو له أن يتزوجها وأن يراجعها، وتريد المرأة ذلك، فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله أن يمنعوها. وكذا روى العوفي، عنه، وكذا قال مسروق، وإبراهيم النخعي، والزهري والضحاك إنها أنزلت في ذلك. وهذا الذي قالوه ظاهر من الآية، وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها، وأنه لا بد في تزويجها من ولي، كما قاله الترمذي وابن جرير عند هذه الآية، كما جاء في الحديث: لا تزوج المرأةُ المرأةَ، ولا تزوج المرأة نفسها، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها. وفي الأثر الآخر: لا نكاح إلا بولي مرشد، وشاهدي عدل. وفي هذه المسألة نزاع بين العلماء محرر في موضعه من كتب الفروع، وقد قررنا ذلك في كتاب "الأحكام"، ولله الحمد والمنة. وقد روي أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار المزني وأخته، فقال البخاري، رحمه الله، في كتابه الصحيح عند تفسير هذه الآية: حدثنا عبيد الله بن سعيد، حدثنا أبو عامر العقدي، حدثنا عباد بن راشد، حدثنا الحسن قال: حدثني معقل بن يسار قال: كانت لي أخت تخطب إلي -قال البخاري: وقال إبراهيم، عن يونس، عن الحسن: حدثني معقل بن يسار. وحدثنا أبو مَعْمَر، حدثنا عبد الوارث، حدثنا يونس، عن الحسن: أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها، فتركها حتى انقضت عدتها، فخطبها، فأبى معقل، فنزلت: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}. وهكذا رواه أبو داود، والترمذي، وابن ماجة، وابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن مردويه من طرق متعددة، عن الحسن، عن معقل بن يسار، به . وصححه الترمذي أيضًا، ولفظه عن معقل ابن يسار: أنه زوج أخته رجلا من المسلمين، على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة، فهويها وهويته، ثم خطبها مع الخطاب، فقال له: يا لكع أكرمتك بها وزوجتكها، فطلقتها! والله لا ترجع إليك أبدًا، آخر ما عليك قال: فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها، فأنزل الله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} إلى قوله: {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فلما سمعها معقل قال: سَمْعٌ لربي وطاعة ثم دعاه، فقال: أزوجك وأكرمك، زاد ابن مردويه: وكفرت عن يميني. وروى ابن جرير عن ابن جريج قال: هي جمل بنت يسار كانت تحت أبي البداح، وقال سفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي قال: هي فاطمة بنت يسار. وهكذا ذكر غير واحد من السلف: أن هذه الآية نزلت في معقل بن يسار وأخته. وقال السدي: نزلت في جابر بن عبد الله، وابنة عم له، والصحيح الأول، والله أعلم. وقوله: {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي: هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف، يأتمر به ويتعظ به وينفعل له {مَنْ كَانَ مِنْكُمْ} أيها الناس {يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي: يؤمن بشرع الله، ويخاف وعيد الله وعذابه في الدار الآخرة وما فيها من الجزاء {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} أي: اتباعكم شرع الله في رد الموليات إلى أزواجهن، وترك الحمية في ذلك، أزكى لكم وأطهر لقلوبكم {وَاللَّهُ يَعْلَمُ} أي: من المصالح فيما يأمر به وينهى عنه {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي: الخيرة فيما تأتون ولا فيما تذرون.
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} هذا إرشاد من الله تعالى للوالدات: أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة، وهي سنتان، فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك؛ ولهذا قال: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} وذهب أكثر الأئمة إلى أنه لا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين، فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم. قال الترمذي: "باب ما جاء أن الرضاعة لا تحرم إلا في الصغر دون الحولين": حدثنا قتيبة، حدثنا أبو عوانة، عن هشام بن عروة، عن فاطمة بنت المنذر، عن أم سلمة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي، وكان قبل الفطام". وقال: هذا حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وغيرهم: أن الرضاعة لا تحرم إلا ما كان دون الحولين، وما كان بعد الحولين الكاملين فإنه لا يحرم شيئًا. وفاطمة بنت المنذر بن الزبير بن العوام، وهي امرأة هشام بن عروة. قلت: تفرد الترمذي برواية هذا الحديث، ورجاله على شرط الصحيحين، ومعنى قوله: إلا ما كان في الثدي، أي: في محل الرضاعة قبل الحولين، كما جاء في الحديث، الذي رواه أحمد، عن وَكِيع وغندر، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب قال: لما مات إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن له مرضعًا في الجنة". وهكذا أخرجه البخاري من حديث شعبة وإنما قال، عليه السلام، ذلك؛ لأن ابنه إبراهيم، عليه السلام، مات وله سنة وعشرة أشهر، فقال: "إن له مرضعًا في الجنة" يعني: تكمل رضاعه، ويؤيده ما رواه الدارقطني، من طريق الهيثم بن جميل، عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين"، ثم قال: لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ. قلت: وقد رواه الإمام مالك في الموطأ، عن ثور بن زيد، عن ابن عباس موقوفًا . ورواه الدراوردي عن ثور، عن عكرمة، عن ابن عباس وزاد: "وما كان بعد الحولين فليس بشيء"، وهذا أصح. وقال أبو داود الطيالسي، عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا رضاع بعد فصال، ولا يُتْم بعد احتلام"، وتمام الدلالة من هذا الحديث في قوله: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]. وقال: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]. والقول بأن الرضاعة لا تحرم بعد الحولين مروي عن علي، وابن عباس، وابن مسعود، وجابر، وأبي هريرة، وابن عمر، وأم سلمة، وسعيد بن المسيب، وعطاء، والجمهور. وهو مذهب الشافعي، وأحمد، وإسحاق، والثوري، وأبي يوسف، ومحمد، ومالك في رواية، وعنه: أن مدته سنتان وشهران، وفي رواية: وثلاثة أشهر. وقال أبو حنيفة: سنتان وستة أشهر، وقال زفر بن الهذيل: ما دام يرضع فإلى ثلاث سنين، وهذا رواية عن الأوزاعي. قال مالك: ولو فطم الصبي دون الحولين فأرضعته امرأة بعد فصاله لم يحرم؛ لأنه قد صار بمنزلة الطعام، وهو رواية عن الأوزاعي، وقد روي عن عمر وعلي أنهما قالا لا رضاع بعد فصال، فيحتمل أنهما أرادا الحولين كقول الجمهور، سواء فطم أو لم يفطم، ويحتمل أنهما أرادا الفعل، كقول مالك، والله أعلم. وقد روي في الصحيح عن عائشة، رضي الله عنها: أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر في التحريم، وهو قول عطاء بن أبي رباح، والليث بن سعد، وكانت عائشة تأمر بمن تختار أن يدخل عليها من الرجال لبعض نسائها فترضعه، وتحتج في ذلك بحديث سالم مولى أبي حذيفة حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم امرأة أبي حذيفة أن ترضعه، وكان كبيرًا، فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة، وأبى ذلك سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ورأين ذلك من الخصائص، وهو قول الجمهور. وحجة الجمهور -منهم الأئمة الأربعة، والفقهاء السبعة، والأكابر من الصحابة، وسائر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى عائشة -ما ثبت في الصحيحين، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "انظرْنَ من إخوانكن، فإنما الرضاعة من المجاعة". وسيأتي الكلام على مسائل الرضاع، وفيما يتعلق برضاع الكبير، عند قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء:23] وقوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} أي: وعلى والد الطفل نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف، أي: بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهنّ من غير إسراف ولا إقتار، بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره، كما قال تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق:7]. قال الضحاك: إذا طلَّقَ [الرجل] زوجته وله منها ولد، فأرضعت له ولده، وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف. وقوله: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} أي: لا تدفعه عنها لتضر أباه بتربيته، ولكن ليس لها دفعُه إذا ولدته حتى تسقيه اللّبأ الذي لا يعيش بدون تناوله غالبًا، ثم بعد هذا لها رفعه عنها إذا شاءت، ولكن إن كانت مضارة لأبيه فلا يحل لها ذلك، كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضّرار لها. ولهذا قال: {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} أي: بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضرارًا بها، قاله مجاهد، وقتادة، والضحاك، والزهري، والسدي، والثوري، وابن زيد، وغيرهم. وقوله: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} قيل: في عدم الضرار لقريبه قاله مجاهد، والشعبي، والضحاك. وقيل: عليه مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل، والقيام بحقوقها وعدم الإضرار بها، وهو قول الجمهور. وقد استقصى ذلك ابن جرير في تفسيره. وقد استدل بذلك من ذهب من الحنفية والحنبلية إلى وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض، وهو مروي عن عمر بن الخطاب، وجمهور السلف، ويرشح ذلك بحديث الحسن، عن سَمرة مرفوعًا: من ملك ذا رحم محرم عُتِق عليه. وقد ذُكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت الولد إما في بدنه أو عقله، وقد قال سفيان الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة: أنه رأى امرأة تُرضع بعد الحولين. فقال: لا ترضعيه. وقوله: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي: فإن اتفقا والدا الطفل على فطامه قبل الحولين، ورأيا في ذلك مصلحة له، وتشاورا في ذلك، وأجمعا عليه، فلا جناح عليهما في ذلك، فيؤْخَذُ منه: أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر، قاله الثوري وغيره، وهذا فيه احتياط للطفل، وإلزام للنظر في أمره، وهو من رحمة الله بعباده، حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما وأرشدهما إلى ما يصلحه ويصلحهما كما قال في سورة الطلاق: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق:6]. وقوله: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} أي: إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يتسلم منها الولد إما لعذر منها، أو عذر له، فلا جناح عليهما في بذله، ولا عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن، واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف. قاله غير واحد. وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي: في جميع أحوالكم {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأقوالكم.
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} هذا أمر من الله للنساء اللاتي يُتَوّفى عنهن أزواجهن: أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع، ومستنده في غير المدخول بها عُمُوم الآية الكريمة، وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي: أن ابن مسعود سُئِل عن رجل تزوّج امرأة فمات ولم يدخل بها، ولم يفرض لها؟ فترددوا إليه مرارًا في ذلك فقال: أقول فيها برأيي، فإن يكن صوابًا فمن الله، وإن يكُن خطأ فمني ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان منه: [أرى] لها الصداق كاملا. وفي لفظ: لها صداق مثلها، لا وكس، ولا شَطَط، وعليها العدّة، ولها الميراث. فقام معقل بن سنان الأشجعي فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قَضى به في بَرْوَع بنت واشق. ففرح عبد الله بذلك فرحًا شديدًا. وفي رواية: فقام رجال من أشجع، فقالوا: نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به في بَرْوَع بنت وَاشِق. ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها، وهي حامل، فإن عدّتها بوضع الحمل، ولو لم تمكث بعده سوى لحظة؛ لعموم قوله: {وَأُولاتُ الأحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4]. وكان ابن عباس يرى: أن عليها أن تتربص بأبعد الأجلين من الوضع، أو أربعة أشهر وعشر، للجمع بين الآيتين، وهذا مأخذ جيد ومسلك قوي، لولا ما ثبتت به السنة في حديث سبيعة الأسلمية، المخرج في الصحيحين من غير وجه: أنه توفي عنها زوجها سعد بن خولة، وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، وفي رواية: فوضعت حملها بعده بليال، فلما تَعَلَّتْ من نفاسها تجملت للخُطَّاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بَعْكَك، فقال لها: ما لي أراك مُتَجَمِّلة؟ لعلك ترجين النكاح. والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعَشْر. قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حلَلَتُ حين وضعتُ، وأمرني بالتزويج إن بدا لي. قال أبو عمر بن عبد البر: وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث سُبَيعة، يعني لما احتج عليه به. قال: ويصحح ذلك عنه: أن أصحابه أفتوا بحديث سبيعة، كما هو قول أهل العلم قاطبة. وكذلك يستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أمة، فإن عدتها على النصف من عدة الحرة، شهران وخمس ليال، على قول الجمهور؛ لأنها لما كانت على النصف من الحرة في الحَدّ، فكذلك فلتكن على النصف منها في العدة. ومن العلماء -كمحمد بن سيرين وبعض الظاهرية -من يسوي بين الزوجات الحرائر والإماء في هذا المقام؛ لعموم الآية، ولأن العدة من باب الأمور الجبلية التي تستوي فيها الخليقة. وقد ذكر سعيدُ بن المسيب، وأبو العالية وغيرهما: أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا؛ لاحتمال اشتمال الرحم على حمل، فإذا انتظر به هذه المدة ظهر إن كان موجودًا، كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وغيرهما: "إن خلق أحدكم يُجمع في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملكفينفخ فيه الروح". فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر، والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور، ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه، والله أعلم. قال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة: سألت سعيد بن المسيب: ما بال العشرة؟ قال: فيه ينفخ الروح. وقال الربيع بن أنس: قلت لأبي العالية: لِمَ صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة؟ قال: لأنه ينفخ فيها الروح. رواهما ابن جرير. ومن هاهنا ذهب الإمام أحمد، في رواية عنه، إلى أن عدة أم الولد عدة الحرة هاهنا؛ لأنها صارت فراشا كالحرائر، وللحديث الذي رواه الإمام أحمد، عن يزيد بن هارون، عن سعيد بن أبي عَرُوبَة، عن قتادة، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب، عن عمرو بن العاص أنه قال: لا تُلْبِسوا علينا سنة نبينا، عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها أربعة أشهر وعشر ورواه أبو داود، عن قتيبة، عن غُنْدَر -وعن ابن المثنى، عن عبد الأعلى. وابن ماجة، عن علي بن محمد، عن وَكِيع -ثلاثتهم عن سعيد بن أبي عَرُوبة، عن مَطَر الوراق، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة، عن عمرو بن العاص، فذكره. وقد روي عن الإمام أحمد أنه أنكر هذا الحديث، وقيل: إن قبيصة لم يسمع عَمْرًا، وقد ذهب إلى القول بهذا الحديث طائفة من السلف، منهم: سعيد بن المسيب، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والحسن، وابن سيرين، وأبو عياض،والزهري، وعمر بن عبد العزيز. وبه كان يأمر يزيد بن عبد الملك بن مروان، وهو أمير المؤمنين. وبه يقول الأوزاعي، وإسحاق بن رَاهْوَيه، وأحمد بن حنبل، في رواية عنه. وقال طاوس وقتادة: عدة أم الولد إذا توفي عنها سيدها نصفُ عدة الحرة: شهران وخمس ليال. وقال أبو حنيفة وأصحابه، والثوري، والحسن بن صالح بن حَيّ: تعتد بثلاث حيض. وهو قول علي، وابن مسعود، وعطاء، وإبراهيم النخَعي. وقال مالك، والشافعي، وأحمد في المشهور عنه: عدتها حيضة. وبه يقول ابن عمر، والشعبي، ومكحول، والليث، وأبو عبيد، وأبو ثَور، والجمهور. قال الليث: ولو مات وهي حائض أجزأتها. وقال مالك: فلو كانت ممن لا تحيض فثلاثة أشهر. وقال الشافعي والجمهور: شهر، وثلاثة أحب إلي. والله أعلم. وقوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} يستفاد من هذا وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها، لما ثبت في الصحيحين، من غير وجه، عن أم حبيبة وزينب بنت جحش أمي المؤمنين، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا" . وفي الصحيحين أيضا، عن أم سلمة: أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن ابنتي تُوفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينُها، أفنكْحُلُها؟ فقال: "لا". كل ذلك يقول: "لا" مرتين أو ثلاثًا. ثم قال: "إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة". قالت زينب بنت أم سلمة: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفْشًا، ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيبًا ولا شيئًا، حتى تمر بها سنة، ثم تخرج فتعطى بَعْرة فترمي بها، ثم تؤتى بدابة -حمار أو شاة أو طير -فَتَفْتَضَّ به فقلما تفتض بشيء إلا مات. ومن هاهنا ذهب كثير من العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة للآية التي بعدها، وهي قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240]، كما قاله ابن عباس وغيره، وفي هذا نظر كما سيأتي تقريره. والغرض أن الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب، ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحُلِيٍّ وغير ذلك وهو واجب في عدة الوفاة قولا واحدًا، ولا يجب في عدة الرجعية قولا واحدًا، وهل يجب في عدة البائن؟ فيه قولان. ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن، سواء في ذلك الصغيرة والآيسة والحرة والأمة، والمسلمة والكافرة، لعموم الآية. وقال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: لا إحداد على الكافرة. وبه يقول أشهبُ، وابنُ نافع من أصحاب مالك. وحجة قائل هذه المقالة قولهُ صلى الله عليه وسلم :"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تُحِدّ على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج أربعة أشهر وعشرًا": قالوا: فجعله تعبدًا . وألحق أبو حنيفة وأصحابه والثوري الصغيرة بها، لعدم التكليف. وألحق أبو حنيفة وأصحابه الأمة المسلمة لنقصها. ومحل تقرير ذلك كله في كتب الأحكام والفروع، والله الموفق للصواب. وقوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي: انقضت عدتهن . قاله الضحاك والربيع بن أنس، {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} قال الزهري: أي: على أوليائها {فِيمَا فَعَلْنَ} يعني: النساء اللاتي انقضت عدتهن. قال العوفي عن ابن عباس: إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها، فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنَّع وتتعرض للتزويج، فذلك المعروف. روي عن مقاتل بن حيان نحوه، وقال ابن جريج عن مجاهد: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قال: هو النكاح الحلال الطيب. وروي عن الحسن، والزهري، والسدي نحو ذلك.
{وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} يقول تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} أن تُعَرّضوا بخطبة النساء في عدتهن من وفاة أزواجهن من غير تصريح. قال الثوري وشعبة وجرير وغيرهم، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} قال: التعريض أن تَقُول: إني أريد التزويج، وإني أحب امرأة من أمرها ومن أمرها -يعرض لها بالقول بالمعروف -وفي رواية: وددت أن الله رزقني امرأة ونحو هذا. ولا يَنْصِبُ للخِطْبة. وفي رواية: إني لا أريد أن أتزوج غيرَك إن شاء الله، ولوددت أني وجدت امرأة صالحة، ولا ينصب لها ما دامت في عدتها. ورواه البخاري تعليقًا، فقال: قال لي طلق بن غَنَّام، عن زائدة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} هو أن يقول: إني أريد التزويج، وإن النساء لمن حاجتي، ولوددت أنه تَيَسَّر لي امرأة صالحة. وهكذا قال مجاهد، وطاوس، وعكرمة، وسعيد بن جُبير، وإبراهيم النخَعي، والشعبي، والحسنُ، وقتادة، والزهري، ويزيد بن قُسَيط، ومقاتل بن حيَّان، والقاسم بن محمد، وغير واحد من السلف والأئمة في التعريض: أنه يجوز للمتوفى عنها زوجها من غير تصريح لها بالخطبة. وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التعريض لها، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس، حين طلقها زوجها أبو عَمْرو بن حَفْص: آخر ثلاث تطليقات. فأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم، وقال لها: "فإذا حَلَلْت فآذنيني". فلما حلَّتْ خطب عليها أسامة بن زيد مولاه، فزَوّجها إياه. فأما المطلقة الرجعية: فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها ولا التعريض لها، والله أعلم. وقوله: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} أي: أضمرتم في أنفسكم خطْبَتَهُنّ وهذا كقوله تعالى: {وَرَبُّكَ} يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص:69] وكقوله: {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} [المتحنة:1] ولهذا قال: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} أي: في أنفسكم، فرفع الحرج عنكم في ذلك، ثم قال: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} قال أبو مِجْلَز، وأبو الشعثاء -جابر بن زيد -والحسن البصري، وإبراهيم النخعي وقتادة، والضحاك، والربيع بن أنس، وسليمان التيمي، ومقاتل بن حيان، والسدي: يعني الزنا. وهو معنى رواية العَوفي عن ابن عباس، واختاره ابن جرير.وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} لا تقل لها: إني عاشق، وعاهديني ألا تتزوجي غيري، ونحو هذا. وكذا رُوي عن سعيد بن جُبير، والشعبي، وعكرمة، وأبي الضحى، والضحاك، والزهري، ومجاهد، والثوري: هو أن يأخذ ميثاقها ألا تتزوج غيره، وعن مجاهد: هو قول الرجل للمرأة: لا تفوتيني بنفسك، فإني ناكحك. وقال قتادة: هو أن يأخذ عهد المرأة، وهي في عدتها ألا تنكح غيره، فنهى الله عن ذلك وقدم فيه، وأحل الخطبة والقول بالمعروف. وقال ابن زيد: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} هو أن يتزوجها في العدة سرًا، فإذا حلت أظهر ذلك. وقد يحتمل أن تكون الآية عامة في جميع ذلك؛ ولهذا قال: {إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا} قال ابن عباس، ومجاهد وسعيد بن جبير، والسدي، والثوري، وابن زيد: يعني به: ما تقدم من إباحة التعريض. كقوله: إني فيك لراغب. ونحو ذلك. وقال محمد بن سيرين: قلت لعَبِيدة: ما معنى قوله: {إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا}؟ قال: يقول لوليها: لا تسبِقْني بها، يعني: لا تزوجها حتى تُعلمني. رواه ابن أبي حاتم. وقوله: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} يعني: ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العدة. قال ابن عباس، ومجاهد، والشعبي، وقتادة، والربيع بن أنس، وأبو مالك، وزيد بن أسلم، ومقاتل بن حيان، والزهري، وعطاء الخراساني، والسدي، والثوري، والضحاك: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} يعني: حتى تنقضي العدة. وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح العقد في مدة العدة. واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها فدخل بها، فإنه يفرق بينهما، وهل تحرم عليه أبدا؟ على قولين: الجمهور على أنها لا تحرم عليه، بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها. وذهب الإمام مالك إلى أنها تحرم عليه على التأبيد. واحتج في ذلك بما رواه عن ابن شهاب، وسليمان بن يسار: أن عمر، رضي الله عنه، قال: أيما امرأة نكحت في عدتها، فإن زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها، فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، ثم كان الآخر خاطبا من الخطاب، وإن كان دخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الأول ثم اعتدت من الآخر، ثم لم ينكحها أبدًا. قالوا: ومأخذ هذا: أن الزوج لما استعجل ما أجل الله، عوقب بنقيض قصده، فحرمت عليه على التأبيد، كالقاتل يحرم الميراثَ. وقد روى الشافعي هذا الأثر عن مالك. قال البيهقي: وذهب إليه في القديم ورجع عنه في الجديد، لقول علي: إنها تحل له. قلت: ثم هو منقطع عن عمر. وقد روى الثوري، عن أشعث، عن الشعبي، عن مسروق: أن عمر رجع عن ذلك وجعل لها مهرها، وجعلهما يجتمعان. وقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر، ثم لم يُؤْيِسْهُم من رحمته، ولم يُقْنطهم من عائدته، فقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}.
{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} أباح تبارك وتعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول بها. قال ابن عباس، وطاوس، وإبراهيم، والحسن البصري: المس: النكاح. بل ويجوز أن يطلقها قبل الدخول بها، والفرض لها إن كانت مفوضة، وإن كان في هذا انكسار لقلبها؛ ولهذا أمر تعالى بإمتاعها، وهو تعويضها عما فاتها بشيء تعطاه من زوجها بحسب حاله، على الموسع قدره وعلى المقتر قدره. وقال سفيان الثوري، عن إسماعيل بن أمية، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: متعة الطلاق أعلاه الخادم، ودون ذلك الورق، ودون ذلك الكسوة. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: إن كان موسرا متعها بخادم، أو شبه ذلك، وإن كان معسرا أمتعها بثلاثة أثواب. وقال الشعبي: أوسط ذلك: درع وخمار وملحفة وجلباب. قال: وكان شريح يمتع بخمسمائة. وقال عبد الرزاق: أخبرنا مَعْمَر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: كان يُمتع بالخادم، أو بالنفقة، أو بالكسوة، قال: ومتع الحسن بن علي بعشرة آلاف ويروى أن المرأة قالت: متاعٌ قليلٌ من حَبِيبٍ مُفَارق *** وذهب أبو حنيفة، رحمه الله، إلى أنه متى تنازع الزوجان في مقدار المتعة وجب لها عليه نصف مهر مثلها. وقال الشافعي في الجديد: لا يجبر الزوج على قدر معلوم، إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة، وأحب ذلك إليَّ أن يكون أقله ما تجزئ فيه الصلاة. وقال في القديم: لا أعرف في المتعة قدرًا إلا أني أستحسن ثلاثين درهمًا؛ لما روي عن ابن عمر، رضي الله عنهما. وقد اختلف العلماء أيضًا: هل تجب المتعة لكل مطلقة، أو إنما تجب المتعة لغير المدخول بها التي لم يفرض لها؟ على أقوال: أحدها: أنه تجب المتعة لكل مطلقة، لعموم قوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241] ولقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب:28] وقد كن مفروضا لهن ومدخولا بهن، وهذا قول سعيد بن جُبير، وأبي العالية، والحسن البصري. وهو أحد قولي الشافعي، ومنهم من جعله الجديد الصحيح، فالله أعلم. والقول الثاني: أنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس، وإن كانت مفروضًا لها لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب:49] قال شعبة وغيره، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: نسخت هذه الآية التي في الأحزاب الآية التي في البقرة. وقد روى البخاري في صحيحه، عن سهل بن سعد، وأبي أسَيد أنهما قالا تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أميمة بنت شراحيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنما كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازِقِيَّين . والقول الثالث: أن المتعة إنما تجب للمطلقة إذا لم يدخل بها، ولم يفرض لها، فإن كان قد دخل بها وجب لها مهر مثلها إذا كانت مفوضة، وإن كان قد فرض لها وطلقها قبل الدخول، وجب لها عليه شطره، فإن دخل بها استقر الجميع، وكان ذلك عوضًا لها عن المتعة، وإنما المصابة التي لم يفرض لها ولم يدخل بها فهذه التي دلت هذه الآية الكريمة على وجوب متعتها. وهذا قول ابن عمر، ومجاهد. ومن العلماء: من استحبها لكل مطلقة ممن عدا المفوضة المفارقة قبل الدخول: وهذا ليس بمنكور وعليه تحمل آية التخيير في الأحزاب؛ ولهذا قال تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة:241]. ومن العلماء من يقول: إنها مستحبة مطلقًا. قال ابن أبي حاتم: حدثنا كثير بن شهاب القزويني، حدثنا محمد بن سعيد بن سابق، حدثنا عمرو -يعني ابن أبي قيس -عن أبي إسحاق، عن الشعبي قال: ذكروا له المتعة، أيحبس فيها؟ فقرأ: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} قال الشعبي: والله ما رأيت أحدا حبس فيها، والله لو كانت واجبة لحبس فيها القضاة.
{وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وهذه الآية الكريمة مما يدل على اختصاص المتعة بما دلت عليه الآية الأولى حيث إنما أوجب في هذه الآية نصف المهر المفروض، وإذا طلق الزوج قبل الدخول، فإنه لو كان ثم واجب آخر من متعة لبينها لا سيما وقد قرنها بما قبلها من اختصاص المتعة بتلك الحالة والله أعلم. وتشطير الصداق -والحالة هذه -أمر مجمع عليه بين العلماء، لا خلاف بينهم في ذلك، فإنه متى كان قد سمى لها صداقًا ثم فارقها قبل دخوله بها، فإنه يجب لها نصف ما سمى من الصداق، إلا أن عند الثلاثة أنه يجب جميع الصداق إذا خلا بها الزوج، وإن لم يدخل بها، وهو مذهب الشافعي في القديم، وبه حكم الخلفاء الراشدون، لكن قال الشافعي: أخبرنا مسلم بن خالد، أخبرنا ابن جريج، عن ليث بن أبي سليم، عن طاوس، عن ابن عباس أنه قال: -في الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها ثم يطلقها -ليس لها إلا نصف الصداق؛ لأن الله يقول: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} قال الشافعي: هذا أقوى وهو ظاهر الكتاب. قال البيهقي: وليث بن أبي سليم وإن كان غير محتج به، فقد رويناه من حديث ابن أبي طلحة، عن ابن عباس فهو يقوله. وقوله: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} أي: النساء عما وجب لها على زوجها من النصف، فلا يجب لها عليه شيء. قال السدي، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} قال: إلا أن تعفو الثيب فتدع حقها. قال الإمام أبو محمد بن أبي حاتم، رحمه الله: وروي عن شريح، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، ومجاهد، والشعبي، والحسن، ونافع، وقتادة، وجابر بن زيد، وعطاء الخراساني، والضحاك، والزهري، ومقاتل بن حيان، وابن سيرين، والربيع بن أنس، والسدي، نحو ذلك. قال: وخالفهم محمد بن كعب القرظي فقال: {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} يعني: الرجال، وهو قول شاذ لم يتابع عليه. انتهى كلامه. وقوله: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} قال ابن أبي حاتم: ذكر عن ابن لهيعة، حدثني عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم [قال]: "ولي عقدة النكاح الزوج". وهكذا أسنده ابن مردويه من حديث عبد الله بن لهيعة، به . وقد أسنده ابن جرير، عن ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره ولم يقل: عن أبيه، عن جده فالله أعلم. ثم قال ابن أبي حاتم، رحمه الله: وحدثنا يونس بن حبيب، حدثنا أبو داود، حدثنا جرير، يعني ابن حازم، عن عيسى -يعني ابن عاصم -قال: سمعت شريحًا يقول: سألني علي بن طالب عن الذي بيده عقدة النكاح. فقلت له: هو ولي المرأة. فقال علي: لا بل هو الزوج. ثم قال: وفي إحدى الروايات عن ابن عباس، وجبير بن مطعم، وسعيد بن المسيب، وشريح -في أحد قوليه -وسعيد بن جبير، ومجاهد، والشعبي، وعكرمة، ونافع، ومحمد بن سيرين، والضحاك، ومحمد بن كعب القرظي، وجابر بن زيد، وأبي مِجْلز، والربيع بن أنس، وإياس بن معاوية، ومكحول، ومقاتل بن حيان: أنه الزوج. قلت: وهذا هو الجديد من قولي الشافعي، ومذهب أبي حنيفة. وأصحابه، والثوري، وابن شبرمة، والأوزاعي، واختاره ابن جرير. ومأخذ هذا القول: أن الذي بيده عقدة النكاح حقيقة الزوج، فإن بيده عقدها وإبرامها ونقضها وانهدامها، وكما أنه لا يجوز للولي أن يهب شيئًا من مال المولية للغير، فكذلك في الصداق. قال والوجه الثاني: حدثنا أبي، حدثنا ابن أبي مريم، حدثنا محمد بن مسلم، حدثنا عمرو بن دينار، عن ابن عباس -في الذي ذكر الله بيده عقدة النكاح -قال: ذلك أبوها أو أخوها، أو من لا تنكح إلا بإذنه، وروي عن علقمة، والحسن، وعطاء، وطاوس، والزهري، وربيعة، وزيد بن أسلم، وإبراهيم النخعي، وعكرمة في أحد قوليه، ومحمد بن سيرين -في أحد قوليه: أنه الولي. وهذا مذهب مالك، وقول الشافعي في القديم؛ ومأخذه أن الولي هو الذي أكسبها إياه، فله التصرف فيه بخلاف سائر مالها. وقال ابن جرير: حدثنا سعيد بن الربيع الرازي، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة قال: أذن الله في العفو وأمر به، فأي امرأة عفت جاز عفوها، فإن شحت وضنت عفا وليها وجاز عفوه. وهذا يقتضي صحة عفو الولي، وإن كانت رشيدة، وهو مروي عن شريح. لكن أنكر عليه الشعبي، فرجع عن ذلك، وصار إلى أنه الزوج وكان يباهل عليه. وقوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} قال ابن جرير: قال بعضهم: خُوطب به الرجال، والنساء. حدثني يونس، أخبرنا ابن وهب، سمعت ابن جريج يحدث عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} قال: أقربهما للتقوى الذي يعفو. وكذا روي عن الشعبي وغيره، وقال مجاهد، والضحاك، ومقاتل بن حيان، والربيع بن أنس، والثوري: الفضل هاهنا أن تعفو المرأة عن شطرها، أو إتمام الرجل الصداق لها. ولهذا قال: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ [بَيْنَكُمْ] أي: الإحسان، قاله سعيد. وقال الضحاك، وقتادة، والسدي، وأبو وائل: المعروف، يعني: لا تهملوه بل استعملوه بينكم. وقد قال أبو بكر بن مردويه: حدثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدثنا موسى بن إسحاق،حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا يونس بن بكير، حدثنا عبيد الله بن الوليد الوصافي، عن عبد الله بن عبيد، عن علي بن أبي طالب، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليأتينَّ على الناس زمان عَضُوض، يَعَضّ المؤمن على ما في يديه وينسى الفضل، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} شرار يبايعون كل مضطر، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر، وعن بيع الغَرَر، فإن كان عندك خير فعُدْ به على أخيك، ولا تزده هلاكًا إلى هلاكه، فإن المسلم أخو المسلم لا يَحْزُنه ولا يحرمه". وقال سفيان، عن أبي هارون قال: رأيت عون بن عبد الله في مجلس القرظي، فكان عون يحدثنا ولحيته تُرَش من البكاء ويقول: صحبت الأغنياء فكنت من أكثرهم هَمًّا، حين رأيتهم أحسن ثيابًا، وأطيب ريحًا، وأحسن مركبًا [منى]. وجالست الفقراء فاسترحت بهم، وقال: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} إذا أتاه السائل وليس عنده شيء فَلْيَدْعُ له: رواه ابن أبي حاتم. {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: لا يخفى عليه شيء من أموركم وأحوالكم، وسيجزي كل عامل بعمله.
|